
"دام" و "دويزي": كتاكيت لفهمِ النزيف.. وبذورُ "قنب" لاستخراجِ العلاج

يُمكنُ أنْ يؤدِّيَ جرحٌ عميقٌ إلى فقدانِ كمياتٍ كبيرةٍ منَ الدمِ تُسببُ الوفاة. في الماضي؛ كانتْ حتى الجروحُ السطحيةُ خطيرة؛ ويُمكنُ أنْ يَنجُمَ عنها الوفاة.
يحدثُ تجلطُ الدمِ في أماكنِ الجروحِ نتيجةَ سلسلةٍ طويلةٍ منَ العمليات. ففي أثناءِ التخثرِ؛ تترسبُ شبكةٌ مُعقدةٌ منَ الفيبرين - هيَ مادةٌ بروتينيةٌ ليفيةٌ بيضاءُ تتكونُ منْ بروتينٍ في الدمِ يُسمى الفيبرينوجين. يتمُّ تكوينُ ذلكَ البروتينِ عبرَ مادةٍ تتشكلُ في الكبدِ تُسمى البروثرومبين؛ يتسببُ نقصُها في عدمِ تجلُّطِ الدمِ حتى في الجروحِ البسيطةِ؛ ما يعني النزفَ حتى الموتِ حالَ حدوثِ جرحٍ صغيرٍ بسكينِ مطبخ!
لكنْ؛ ما الذي يُسببُ نقصَ البروثرومبين؟ هذا ما اكتشفَهُ كلٌّ منْ "هنريك دام" و"إدوارد دويزي".. الدنماركي والأمريكي اللذانِ حصلا على جائزةِ نوبل الطبِّ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةٍ وأربعين.
إذْ أظهرتِ التحقيقاتُ المستمرةُ والمكثفة، التي شاركَ فيها العالِمانِ أنَّ نقصَ البروثرومبين ينجمُ عنْ نقصِ فيتامينَ لمْ يكنْ يُعرفُ في السابق؛ أطلقا عليهِ اسمَهُ فيتامين K، ويحدثُ في بعضِ أمراضِ الكبدِ والأمعاءِ عندَ الرجلِ وكذلكَ عندَ الأطفالِ حديثِي الولادة، ويمكنُ تعويضُ هذا النقصِ عنْ طريقِ توفيرِ فيتامين ك.
بعدَ أنْ اكتشفَ العالِمانِ وجودَ ذلكَ الفيتامين؛ سرعانَ ما استخدمَ نتائجَهما العلماءُ والباحثونَ في جميعِ أنحاءِ العالمِ في علاجِ أمراضِ النزفِ لدى الإنسان.
تتميزُ بعضُ أمراضِ الكبدِ والقنواتِ المراريةِ المصحوبةُ باليرقانِ بميلٍ واضحٍ للنزيفِ، ووجدَ أنَّ هذا الميلَ بسببِ نقصِ البروثرومبين والذي يمكنُ علاجُهُ أيضًا بفيتامين ك.
وباكتشافِ ذلكَ الفيتامين؛ أصبحَ استخدامُ العلاجِ الجراحيِّ في بعضِ حالاتِ أمراضِ الكبدِ والقنواتِ المراريةِ أقلَّ خطورةً بكثيرٍ منْ ذي قبل. كما تمكَّنَ الأطباءُ أيضًا منْ علاجِ بعضِ أمراضِ الأمعاءِ التي طالَ أمدُها بالمادةِ السحريةِ نفسِها.. فيتامين ك.
اكتسبَ هذا الفيتامين أهميتَهُ العمليةَ في علاجِ الأطفالِ الذين يُعانونَ منَ النزفِ المستمر. في هذه السنِّ المبكرة، يحدثُ النزيفُ - الذي ينطوي أحيانًا على تهديدٍ للحياة - بمعدلٍ أكبرَ بكثيرٍ مما يحدثُ في المراحلِ الأكثرَ تقدمًا. وقدْ ثبتَ أنَّ عددًا كبيرًا منَ الحالاتِ يُمكنُ علاجُهُ عنْ طريقِ إمدادِ الأطفالِ بمستوياتٍ أكبرَ منْ ذلكَ الفيتامين؛ بلْ يمكنُ أيضًا إعطاءُ الأمِّ الحاملِ مستوياتٍ أكبرَ منْ ذلكَ الفيتامين قبلَ الولادةِ بفترةٍ وجيزةٍ لتعويضِ النقصِ المحتمَلِ لذلكَ الفيتامينِ في الأجنة.
ويُعدُّ اكتشافُ فيتامين ك، وإيضاحُ طبيعتِهِ وتحضيرُهُ معمليًّا، أحدَ الاكتشافاتِ الطبيةِ ذاتِ المرتبةِ العالية؛ كما أنها ذاتُ أهميةٍ كبيرةٍ على الصعيدينِ النظريِّ والعملي. إذْ مكَّنَ ذلكَ الاكتشافُ العلماءَ منْ فهمِ العمليةِ المعقدةِ التي ينطوي عليها تخثُّرُ الدم، وتمَّ تسليطُ الضوءِ على مسبِّباتِ الأمراضِ النزفيةِ التي كانتْ غامضةً في السابقِ عندَ البالغينَ والأطفال. كما حصلتِ البشريةُ في الوقتِ نفسِهِ على علاجٍ قيِّمٍ للغايةِ للوقايةِ منَ النزيفِ وعلاجِهِ حالَ حدوثِه.
بدأتْ خطواتُ الاكتشافِ الأُولى عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وتسعةٍ وعشرينَ، في معهدِ الكيمياءِ الحيويةِ بجامعةِ كوبنهاغن، حيثُ انخرطَ "دام" في دراساتٍ تجريبيةٍ على الكتاكيت، التي تلقتْ نظامًا غذائيًّا لا يحتوي تقريبًا على أيّ دهون.
لاحظَ "دام" أنَّ الكتاكيتَ أظهرتْ بعدَ فترةٍ منَ الوقتِ نزيفًا في أجزاءَ مختلفةٍ منَ الجسمِ كما تخثرتْ دماؤُها بشكلٍ أبطأَ منَ المعتاد؛ افترضَ "دام" في البدايةِ أنَّ الأمرَ يتعلقُ بالإسقربوط، أيْ نقصَ فيتامين سي، لكنَّهُ وجدَ، منْ خلالِ التحقيقِ المستمرِّ، أنَّه لا هذا ولا أيُّ فيتامينٍ آخرَ معروفٍ يمكنُ أنْ يمنعَ أوْ يتحققَ منَ النزعةِ النزفيةِ في حيواناتِ المختبر.
وجدَ دام في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وأربعةٍ وثلاثينَ أنَّ إضافةَ بذورِ القنبِ إلى الطعامِ منعتِ النزيف. ليستنتجَ أنَّ بذورَ القنبِ يجبُ أنْ تحتويَ على مادةٍ غيرِ معروفةٍ لها تأثيرٌ وقائيٌّ ضدَّ بعضِ النزيف. هذهِ المادةُ التي وجدَ أنَّها ضروريةٌ لتخثُّرِ الدم، أطلقَ عليها "دام" فيتامينَ التخثرِ أوْ فيتامينَ ك. كما وجدَ دام أنَّ هذا الفيتامينَ لا يوجدُ فقطْ في المملكةِ النباتيةِ كبذورِ الكرنب والطماطم؛ وفول الصويا والبرسيم، ولكنْ أيضًا في أعضاءَ حيوانيةٍ معينة، وخاصةً في الكبد.
أما الأمريكي "دويزي" فقدْ نجحَ في تحديدِ التركيبِ الكيميائيِّ لفيتامين ك، كما نجحَ أيضًا في تحضيرِهِ صناعيًّا، وهوَ ما سهَّلَ بكثيرٍ استخدامَهُ في المجالاتِ الطبيةِ المتعددة.
وُلدَ "دام" عامَ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وخمسةٍ وتسعينَ في "كوبنهاغن"، لوالدٍ يعملُ صيدلانيًّا وأمٍّ تعملُ مُعلمة. تخرجَ الشابُّ في معهدِ البوليتكنيك في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وعشرينَ، وفي العامِ نفسهِ تمَّ تعيينُهُ مدرسًا (مساعدًا) في الكيمياءِ في كليةِ الزراعةِ والطبِّ البيطري. أصبحَ أستاذًا مساعدًا في معهدِ الكيمياءِ وبدأَ في دراسةِ واستقصاءِ عملياتِ التمثيلِ الغذائيِّ في النباتاتِ والحيوانات.
انصبَّ اهتمامُهُ على دراسةِ فيتامين ك، خاصةً فيما يتعلقُ بتكوينِهِ ووظيفتِهِ البيولوجيةِ في الحيواناتِ والنباتات، وكذلكَ تطبيقُه في الطبِّ البشريِّ، وخصائصُهُ الكيميائيةُ والفيزيائيةُ الأساسيةُ وتنقيتُهُ، وتمكَّنَ منْ إثباتِ علاقةِ الفيتامين بزيادةِ نفاذيةِ الشعيراتِ الدمويةِ وتلوينِ الأنسجةِ الدهنية.
ذهبَ "دام" في جولةٍ لإعطاءِ محاضراتٍ في كندا والولاياتِ المتحدةِ تحتَ رعايةِ المؤسسةِ الأمريكيةِ الإسكندنافيةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعين وألفٍ وتسعِمئةٍ وواحدٍ وأربعينَ، وقدْ جرى التخطيطُ لهذهِ الجولةِ قبلَ احتلالِ الدنمارك منْ قِبَلِ القواتِ الألمانيةِ في أبريل عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعينَ. إلا أنَّ جولتَهُ امتدتْ لستةِ أعوامٍ كاملةٍ تمكَّنَ خلالَها منْ إجراءِ البحوثِ في مختبراتِ "وودز هول" البحريةِ البيولوجيةِ خلالَ صيفِ وخريفِ عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وواحدٍ وأربعينَ، وفي جامعةِ روتشستر، نيويورك، بينَ عامَي ألفٍ وتسعِمئةٍ واثنينِ وأربعينَ وألفٍ وتسعِمئةٍ وخمسةٍ وأربعينَ بصفتِهِ باحثًا مشاركًا أولَ - خلالَ هذهِ الفترةِ حصلَ على جائزةِ نوبل في علمِ وظائفِ الأعضاءِ أو الطبِّ لعامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثلاثةٍ وأربعينَ.
في أثناءِ جولتِهِ بينَ أمريكا وكندا؛ تمَّ تعيينُ "دام" أستاذًا للكيمياءِ الحيويةِ في معهدِ البوليتكنيك بعدَ عودتِهِ إلى الدنمارك في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وستةٍ وأربعينَ، كانتِ الموضوعاتُ البحثيةُ الرئيسيةُ لدام هيَ فيتامين ك ، وفيتامين هـ ، والدهون ، والكوليسترول ، وفي السنواتِ الأخيرة ، الدراساتُ الغذائيةُ المتعلقةُ بتكوينِ حصواتِ المرارة. وتُوفِّي "دام" عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وستةٍ وسبعينَ في "كوبنهاجن"، عنْ عمرٍ ناهزَ واحدًا وثمانينَ عامًا، بعدَ أنْ نشَرَ حوالَي ثلاثِمئةٍ وخمسةَ عشَرَ مقالًا وبحثًا، يدورُ معظمُها حولَ الكيمياءِ الحيويةِ والمشكلاتِ البيوكيميائية.
أمَّا "إدوارد أدلبرت دويزي" فقدْ وُلِدَ في ولاية إلينوي الأمريكيةِ عامَ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وثلاثةٍ وتسعينَ. تلقَّى تعليمَهُ في جامعةِ الولايةِ، وحصلَ على الدكتوراةِ منْ جامعةِ هارفارد في مجالِ العلومِ الكيميائية.
من عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وخمسةَ عشَرَ حتى عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعةَ عشَرَ كانَ مساعدًا في الكيمياءِ الحيويةِ في كليةِ الطبِّ بجامعةِ هارفارد، ومنْ عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعةَ عشَرَ حتى عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةَ عشَرَ عمِلَ في الخدمةِ الحربيةِ في الفيلقِ الصحِّيِّ في جيشِ الولاياتِ المتحدة. من عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وتسعةَ عشَرَ حتى عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وثلاثةٍ وعشرين كان مدرسًا ومساعدًا وأستاذًا مشاركًا في كليةِ الطبِّ بجامعةِ واشنطن، وفي عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وثلاثةٍ وعشرين أصبَحَ أستاذًا للكيمياءِ الحيويةِ في كليةِ الطبِّ بجامعةِ سانت لويس. في عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وأربعةٍ وعشرينَ تمَّ تعيينُهُ مديرًا لقسمِ الكيمياءِ الحيوية.
في عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةٍ وثلاثينَ تمكَّنَ منْ عزلِ فيتامين ك، وبيانِ تركيبِهِ الكيميائيِّ؛ وتصنيعِهِ معمليًّا. كما أجرى أيضًا عددًا منَ الأبحاثِ حولَ الإنسولين، ولهُ مساهماتٌ في مجالِ المضاداتِ الحيوية.
تُوفِّيَ "دويزي" عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وستةٍ وثمانينَ، عنْ عمرٍ ناهزَ ثلاثةً وتسعينَ عامًا.