
تاريخ الإنسان حافل، واسهاماته الفكرية والعملية الكثيرة ساهمت في تغيير مسار كوكب الأرض. لكن وسط الاسهامات الكثيرة يوجد ابتكارات أختلف تماما العالم بعدها. مثلاً ابتكار أول أبجدية والذي ساهم في كتابة التاريخ وأسس للمعاملات التجارية والزراعية، اختراع أول آلة للطباعة والثورة اللتي اعقبتها في تنمية وعي وثقافة البشر، إنتاج أول آلة تعمل بالبخار، واللتي أدت إلى الثورة الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر، وحولت العالم إلى ما هو عليه الآن.
اليوم، نتحدث عن شخص غير التاريخ باختراعه، وساهم بشكل مباشر في حدوث الثورة الصناعية، هذا الشخص هو "دينيس بابان" الفيزيائي البريطاني المولود في فرنسا، واللذي اخترع "حلة" تعمل بضغط البخار.
كلنا نعلم عن "حلة الضغط" ونستخدمها على نطاق واسع في مطابخنا، لكن؛ من منا يعرف إن الثورة الصناعية بدأت بـ"حلة"؟ هذا الابتكار ساهم في إنتاج أول محرك بخاري، مما ساعد على نقل أوروبا من العصور الوسطي، إلى ثورة التصنيع والإنتاج والميكنة.
"دينيس" هو الأبن الرابع من وسط 13 طفل لوالديه، أبوه وأمه كانا يعملان في مهنة الطب، تاريخ مولوده ليس معروفا بالتحديد، لكن معموديته كانت في 22 أغسطس عام 1647.
وهو في سن السادسة، تعلم في إحدى الاكاديميات التابعة لعمه، اللذي كان طبيبا، وبعدها، درس الطب في جامعه "أنجيه"، وحصل على درجة الدكتوراة إلا أنه وجد إن ممارسة مهنة الطب مملة، فاتجه لدراسة الرياضيات والميكانيكا، وقرر السفر إلى باريس حتى يتعلم فن بناء مضخات الهواء وتطوير الأجهزة الميكانيكية.
سنة 1674، نشر بحث حول طرق حفظ الطعام في وسط مفرغ من الهواء، وبعد فترة وجيزة من النشر، سافر من باريس إلى لندن، حتى يتعلم على يد العظيم "روبرت بويل" اللذي يعد واحدا من أعظم العلماء في عصره واللذي وضع قانونا يصف سلوك الغازات "قانون بويل".
عندما قابل "دينيس" "بويل" تعلم منه كيف يحسن مضخات الهواء، واستطاع عمل مضخة بصمام قادرة على تكثيف الهواء، وبعدها مباشرة، اخترع "حلة الضغط" الجد الأكبر للآلة المعروفة اليوم على نطاق واسع تحت أسم "الحلة البريستو".
كان هدف"دينيس" هو طهي الطعام بوسيلة مأمونة وبشكل أسرع، ففكر في صناعة حلة يتم فيها استخدام البخار الساخن لطهي الطعام، كانت المشكلة الرئيسية إن هذه الحلة من الممكن أن تنفجر لو زادت كمية البخار بداخلها، "دينيس" فكر، ووجد الحل، الذي كان عبارة عن تصميم صمام خاص لتنظيم كمية البخار داخل الحلة، وفي نفس الوقت، ضبط درجة الحرارة بدقة، حتى لا تنفجر الحلة، ولا يحترق الطعام.
النماذج الأولى لحلة الضغط انفجرت، بسبب مشكلات ميكانيكية تتعلق بتسرب البخار من الحلة، وأيضا مشكلات في المواد اللتي تصنع منها الحلة لأنها كانت تتعرض لإجهادات كبيرة ولم تكن تحتمل الضغوط العالية، "دينيس" حاول حل المشكلة، إلا أنه لم يستطع في ظل التكنولوجيات المنخفضة وقتها واللتى تتعلق بصناعة المواد، إلا أن فكرته التقطها عالم اسمه "توماس سافري" والذي تمكن –بمساعدة دينيس- من تطوير أول محرك بخاري لضخ المياه من المناجم.
بعدها، بدء "دينيس" في وضع تصاميم مبكرة لمحركات بخارية يُمكن استخدامها في الصناعات، وفي سنة 1705 تمكن من صنع أول تصميم يُمكن استخدامه لإنتاج محركات بخارية على نطاق واسع ولأغراض مختلفة. بعدها، انصرف عن المحركات البخارية ووضع تصميمات لغواصات، وبنادق تعمل بضغط الهواء، وقوارب ذات مجداف، لكن كلها كانت ابتكارات فوق مستوى فهم الناس من حوله.
"دينيس" لم يهتم بآراء الناس، وانصرف عنهم بالغرق في تصميماته، وهنا؛ بدأت تهاجمه الأزمات المالية، وعانى من الفقر والحاجة.
أخر رسالة كتبها "دينيس" لم تكن متعلقة بالعلوم، ففي 23 يناير عام 1712، كتب العالم الكبير خطاب يشكر فيه الجمعية الملكية على تبرعها له بـ10 جنيهات، وبعدها؛ عُثر عليه ميتا داخل حجرته، ولم يستدل على قريب له، فدفن في مقبرة مجهولة دون معالم.
بعد 100 سنة على وفاة "دينيس" تم الاعتراف بمساهماته كمخترع، وخلدت ذكراه بتمثال برونزي في مسقط رأسه بمدينة "بلوا" الفرنسية.