
العديد من الكتب العلمية اليوم نجدها مليئة بالصور التفصيلية التي تكشف عن الأجزاء المعقدة من الحياة النباتية، ولكن قبل اختراع التصوير الفوتوغرافي والتصوير الماكرو (أي تصوير الأجسام الصغيرة جدا من مسافات قريبة جدا)، كان الأمر متروكًا للرسامين والباحثين في علم النبات لتسجيل الأشكال الرائعة للنباتات والحيوانات. واحد من العلماء الذين سجلوا نتائج أبحاثهم بالرسومات هو إرنست هيكل، عالم الأحياء والطبيعة والفيلسوف والطبيب الألماني. استخدم هذا العالم الرسوم التوضيحية لتسجيل النتائج المجهرية لأبحاثه
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كشفت رسوماته الملونة الرائعة والمنمقة للغاية، وألوانه المائية، وسكتشاته عن الأشكال المختلفة للحياة النباتية تحت المجهر. على الرغم من أن كل كائن حي مرسوم يدويًا يبدو وكأنه خرج لتوه من فيلم للخيال العلمي، إلا أن مجموعة أعمال هيكل نجحت في إلقاء الضوء على التعقيدات الخفية بل والمذهلة لأشكال الكائنات الحقيقية والطبيعية التي تسكن الأرض.
ولد إرنست هيكل في ألمانيا في شهر فبراير من عام 1834، درس الطب في جامعة برلين وتخرج عام 1857. بينما كان طالبًا، اصطحبه أستاذه جوهانس مولر في رحلة ميدانية صيفية لمشاهدة الكائنات البحرية الصغيرة قبالة ساحل هيليجولاند في بحر الشمال. ساهمت تلك الرحلة في أن يعيش هيكل طيلة حياته مفتونا بالأشكال الطبيعية والبيولوجيا.
في عام 1859، عندما كان هيكل في الخامسة والعشرين من عمره، سافر إلى إيطاليا حيث أمضى بعض الوقت في نابولي ليكتشف موهبته الفنية وينميها. في نفس العام، ذهب إلى ميسينا حيث درس الهياكل الإشعاعية. واستطاع أن ينشر 59 رسمًا توضيحيًا علميًا بين عامي 1860 و 1862 جنبًا إلى جنب مع شرائح المجهر الأصلية.
قضى هيكل حياته في البحث عن النباتات والحيوانات "من أعالى قمم الجبال إلى أعماق المحيطات". لم يقم فقط باكتشاف آلاف الأنواع الجديدة ووصفها وتسميتها، بل صور أشكالها برسوماته التوضيحية المذهلة. بدقة رسمه وتظليله الحساس تبنى هيكل نظرية داروين للتطور عن طريق أعماله وساعد بذلك في تثقيف العالم حول الكائنات المجهرية التي لم تكن مرئية من قبل.
في عام 1864، أرسل هيكل إلى تشارلز داروين، مجلدين حول كائنات بحرية ميكروسكوبية تدعى الراديولاريا. أثارت رسوماته القوطية البيضاء على الأوراق السوداء إعجاب داروين لدرجة أنه كتب إلى هيكل للتعبير عن امتنانه قائلا: "كانت تلك الأعمال أروع ما رأيت على الإطلاق، وأنا فخور باقتناء نسخة خاصة من المؤلف."
أصبح هيكل بطلا للداروينية في ألمانيا. في الواقع، كانت أعماله هي الأكثر شيوعا، لدرجة أن كتابه (تاريخ الخلق: أو تطور الأرض وسكانها بفعل الأسباب الطبيعية) الذي نُشر عام 1868 ، كان المصدر الرئيسي للمعلومات عن التطور، قبل الحرب العالمية الأولى.
ولعل أشهر إصداراته هي سلسلته متعددة المجلدات المسماه "أشكال فنية في الطبيعة" التي بدأها في عام 1904، وتتضمن مئات الرسومات المفصلة للغاية والتي أصبحت تُعرف باسم "الموسوعة المرئية" للكائنات الحية. احتفالًا بهذه السلسلة، تم نشر كتاب من 704 صفحة بعنوان "الفن والعلوم لإرنست هيكل" يحتوي على 450 رسماً ولوحة مائية ورسومات من أبحاثه ومجموعة من 100 مطبوعة لكائنات مختلفة نُشرت في الأصل بين عامي 1899 و 1904.
توفي هيكل في عام 1908 عن عمر يناهز 85 عامًا، لكن حافظة أعماله الأسطورية لا تزال محتفظة بمكانتها في العالمين العلمي والفني حتى اليوم. إن أعماله لازالت مؤثرة في مجال البحث العلمي، كما أنها ألهمت الفن والتصميم والهندسة المعمارية في أوائل القرن العشرين. واليوم، لازالت الرسوم التوضيحية النباتية لهيكل تقوم بإلهامنا وتذكيرنا بأن العالم الطبيعي مليء بالجمال والاكتشافات المدهشة.