
شأنُنا شأنُ الكائناتِ الأخرى؛ وشأنُ شمعةٍ تضيءُ الطريق. نحترقُ -نحنُ البشرَ- كيْ نعيش.
بحلولِ منتصفِ القرنِ الثامنَ عشَر، أضعفَ مرضُ الإسقربوط مئاتِ الآلافِ منَ البحارةِ البريطانيينَ وغيرِهِم ممنِ اعتمَدَ نظامُهُم الغذائيُّ بشكلٍ كبيرٍ على اللحومِ والنِّشا. كانَ ذلكَ النظامُ يخلو منَ الخَضراواتِ الطازجةِ والفاكهةِ الحمضية. جاءتِ الخُطوةُ الأولى في القضاءِ على هذا المرضِ في عامِ ألفٍ وسبعِمئةٍ وسبعةٍ وخمسينَ، عندما كتبَ الطبيبُ الأسكتلنديُّ جيمس ليند مقالاً يُوصي بالاستهلاكِ الإجباريِّ للحمضياتِ وعصيرِ الليمونِ منْ قِبَلِ البحارةِ في البحريةِ البريطانية.
فخلالَ السنواتِ التي قضاها كجراحٍ في البحريةِ البريطانية، لاحظَ ليند القُوى العلاجيةَ والوقائيةَ للحمضياتِ عندَ البحارةِ الذينَ يُعانونَ منَ الإسقربوط. لكنْ مرَّ أكثرُ منْ قرنٍ قبلَ أنْ يفهمَ العلماءُ بالضبطِ سببَ فاعليةِ الحمضياتِ في مكافحةِ المرضِ الفتاك.
في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعة، افترضَ العالِمانِ النرويجيانِ أكسل هولست وألفريد فروليش وجودَ فيتامين سي على أساسِ آثارِهِ البيولوجية، وتبِعَ ذلكَ منافسةٌ دوليةٌ لعزلِ الفيتامين. في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثمانيةٍ وعشرينَ، قامَ ألبرت زينت جيورجي بعزلِ مادةٍ تمَّ تحديدُها بعدَ أربعِ سنواتٍ على أنَّها فيتامين سي. وشرحَ العملُ اللاحقُ لعملِ "جيورجي" وغيرِهِ منَ الباحثين أخيرًا العلاقةَ بينَ فيتامين سي وعلاجِ الاسقربوط والوقايةِ منه. وهوَ أمرٌ أسهَمَ في حصولِ "جيورجي" - بجانبِ اكتشافهِ العملياتِ المتعلقةَ بالاحتراقِ البيولوجي- على نوبِل الطبِّ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعةٍ وثلاثين.
وُلدَ "جيورجي" في المجرِ عامَ ألفٍ وثمانِمئةٍ وثلاثةٍ وتسعينَ لعائلةٍ مجريةٍ تضمُّ ثلاثةَ أجيالٍ منَ العلماء. وفي وسْطِ أجواءٍ مشبعةٍ بالعلم؛ أحبَّ "جيورجي" الأحياءَ ومالِ إلى دراستِها، بدأَ دراستَهُ في جامعةِ سيملويس في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وأحَدَ عشَر، ولكنَّهُ سرعانَ ما شعرَ بالمللِ معَ الدروسِ التقليديةِ، وبدأَ بمزاولةِ الأبحاثِ الطبيةِ في مختبرِ التشريحِ معَ خالِهِ. ثمَّ انقطعَ عنِ الدراسةِ في تلكَ الجامعةِ بحلولِ عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وأربعةَ عشَر رغمًا عنهُ ليلتحقَ بالجيشِ المَجَريِّ كطبيبٍ في أثناءِ الحربِ العالميةِ الأولى.
كانَ منَ المقررِ أنْ يلتحقَ "جيورجي" بالجيشِ؛ لكونِهِ شابًّا سليمًا ومعافى. وبالفعلِ؛ جُنِّدَ الشابُّ وذهبَ إلى الجبهةِ؛ إلا أنَّهُ أحدثَ إصابةً قويةً لنفسِهِ وبنفسِه. إذْ تغلبتْ عليهِ -كما يقول- رغبةٌ مجنونةٌ في العودةِ إلى العلم- أمسكَ مسدسًا وأطلقَ رصاصةً على ذراعِه؛ منْ أجلِ الهروبِ منَ الخدمةِ القتاليةِ والعودةِ إلى الحياةِ العلمية.
وبالفعلِ؛ عادَ إلى الجامعةِ في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعةَ عشَرَ؛ وحصلَ على شهادتِهِ في الطبِّ في العامِ نفسِه؛ ثمَّ قامَ بجولةٍ في أوروبا للتعرُّفِ على أساليبِ الدراسةِ والمناهجِ في الجامعاتِ الأخرى.
اهتمَّ "جيورجي" بإنتاجِ الطاقةِ وعملياتِ التنفُّسِ، وخلالَ هذا الوقتِ درَسَ عمليةَ تحوُّلِ النباتاتِ إلى اللونِ البنِّيِّ، والتي تحدُثُ عندَ الذبول.
اكتشفَ العالِمُ المجريُّ أنَّ تلكَ الظاهرةَ تحدثُ عندما لا تستطيعُ الآلياتُ التالفةُ في النباتِ توفيرَ ما يكفي منَ الهيدروجينِ لمنعِ الأكسدةِ التي تسبِّبُ اللونَ البني. بعدها؛ حوَّلَ انتباهَهُ إلى النباتاتِ غيرِ البُنيّة. وفي أثناءِ إجراءِ سلسلةٍ منَ التجاربِ على نباتاتِ الحمضيات، وجدَ أنهُ يمكنُهُ تحفيزُ اللونِ البنِّي باستخدامِ البيروكسيديز - وهوَ إنزيمٌ نباتيٌّ نشِطٌ في الأكسدة – قادرٌ على مقاومةِ اللونِ البني.
بعدَها؛ وبعدَ عامينِ منَ التجارب؛ تمكَّنَ "جيورجي" منْ عزلِ حمضِ "الهيكسورونيك” منْ أنسجةِ الغدةِ الكظرية؛ وعرفَ فيما بعدُ أنَّ ذلكَ الحمضَ ما هوَ إلا فيتامينٌ منَ النوعِ "سي" الذي يمنعُ تناوُلُهُ الإصابةَ بمرضِ الإسقربوط، فأطلقَ عليهِ اسمًا جديدًا هوَ "حمض الأسكوربيك" وقامَ باستخراجِهِ باستخدامِ وسائلَ كيميائيةٍ معقدةٍ ابتكرَها معَ زملائِهِ منَ الفلفل الحار.
وفي عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعةٍ وثلاثينَ؛ مُنحَ "جيورجي" جائزةَ نوبل لتحقيقاتِه في آلياتِ الأكسدةِ البيولوجيةِ وعلاقتِها بفيتامين "سي" وحمضِ الفورميك.
بعدَ أعوامٍ قليلةٍ منْ حصولِهِ على جائزةِ نوبل؛ بدأتِ النازيةُ في السيطرةِ على مُجرياتِ الأمورِ في المجر؛ قررَ "جيورجي" الهربَ منَ البلاد؛ ثمَّ عادَ إليها مرةً أخرى لينضمَّ إلى حركةِ المقاومةِ الكنديةِ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وواحدٍ وأربعينَ؛ وتمَّ إرسالُهُ إلى العاصمةِ المصريةِ "القاهرة"، التي كانتْ تحتَ الاحتلالِ البريطانيِّ في ذلكَ التوقيتِ للتفاوُضِ مع الإنجليزِ واستلهامِ خبرتِهِم لتكبيدِ الألمانِ خسائرَ فادحة؛ وهوَ الأمرُ الذي دعا "هتلر" لإصدارِ مذكرةِ اعتقالٍ بحقِّهِ باعتبارِهِ خائنًا.
هربَ "جيورجي" حتى انتهاءِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وخمسةٍ وأربعينَ؛ ثمَّ عادَ مرةً أخرى إلى المجرِ وانتُخبَ عُضوًا في البرلمانِ وساعدَ في تأسيسِ أكاديميةِ العلومِ المجرية؛ إلا أنَّهُ عادَ وهربَ مرةً أخرى بسببِ سيطرةِ الحكمِ الشيوعيِّ على البلادِ وهاجرَ إلى الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية.
وهناكَ؛ تابعَ دراساتِهِ عنِ العضلات؛ فبعدَ أنِ استقرَّ في ماساتشوستس؛ عُينَ في معهدِ أبحاثِ العضلات. وأصبحَ منَ المدافعينَ المتحمسينَ عنْ أبحاثِ السرطانِ التي ترعاها الحكومةُ بعدَ أنْ فقدَ اثنينِ منْ أفرادِ أسرتِهِ المقربينَ بسببِ المرض. وقررَ قضاءَ الكثيرِ منْ حياتِهِ المهنيةِ اللاحقةِ في دراسةِ السرطانِ على المستوى الخلوي.
عاشَ "جيورجي" متشائمًا؛ وجَّهَ انتقادًا حادًّا للإدارةِ الأمريكيةِ وللدولِ التي تسعى لزيادةِ ترسانتِها النووية. وأعلنَ عنْ آرائِهِ الاجتماعيةِ والسياسية في كتابٍ صدرَ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعينَ تحتَ عنوان "القرد المجنون".
عاشَ المجريُّ هاربًا؛ هرَبَ منَ الجيشِ كارهًا الحرب؛ وهربَ منْ وطنِهِ كارهًا الفاشية؛ ثمَّ عادَ؛ ثمَّ هربَ لكراهيتِهِ الشيوعية. عاش جورجي حياتَهُ هاربًا منْ كلِّ ما يكره؛ إلا أنَّهُ ظلَّ أسيرًا للمعرفةِ؛ كانَ قدرُهُ العيشَ في ظروفٍ غيرِ مواتية، إلا أنَّهُ تمكَّنَ خلالَ رحلةِ هروبِهِ منْ تحقيقِ العديدِ منَ الإنجازات؛ دفعتْ مسيرةَ البحثِ العلميِّ إلى الأمام.
عاشَ "جيورجي" طيلةَ حياتِهِ كارهًا للفاشيةِ والديكتاتوريةِ محبًّا للعلمِ والمعرفة؛ وتُوفِّيَ في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وستةٍ وثمانينَ، عنْ عُمرٍ ناهزَ ثلاثةً وتسعينَ عامًا بعدَ مسيرةٍ مشرقةٍ في البحثِ العلمي.. والسياسة.