
في ثلاثينياتِ القرنِ العشرين؛ كانتْ نارُ النازيةِ آخذةً في التصاعُد. اعتقالاتٌ لآلافٍ منَ اليهودِ وإرسالُهم إلى المعتقلاتِ وأفرانِ الغازِ، لا لذنبٍ اقترفوهُ سوى أنهمْ وُلدوا يهودًا. معَ تصاعُدِ الاضطهاداتِ الممنهجةِ والتصفيةِ العرقيةِ لهم؛ اضطُرَّ عالِمُ الأحياءِ اليهوديُّ البارزُ "هانز كريبس" إلى الفرارِ منْ ألمانيا. خسرتِ الدولةُ الألمانيةُ هذا العقلَ النابغ، كما خسرتْ مئاتِ العقولِ النابغةِ على مدارِ سنواتٍ تالية. ففي عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعةٍ وثلاثينَ وبينما كانَ "كريبس" يُجري البحوثَ في جامعةِ كامبريدج في إنجلترا. قررَ الرجلُ كشفَ الغموضِ لإحدى العملياتِ الحيويةِ الأساسية.. كيفَ يتحولُ الغذاءُ في أجسادِنا إلى طاقة.
نحنُ نأكلُ لنعيش. لكنْ؛ ظلتِ الكيفيةُ التي تُحولُ المدخولاتِ الغذائيةَ إلى طاقةٍ عصيةً على الفهم. فلمْ يُدركِ العلماءُ علاقةَ الطعامِ وهضمِه بإمدادِ الجسمِ بما يحتاجُ إليهِ منْ طاقةٍ لأداءِ العملياتِ الحيويةِ الأخرى إلا في الأزمنةِ الحديثةِ نسبيًّا؛ وذلكَ بفضلِ أبحاثِ الألمانيِّ "كريبس".
لدراسةِ تلكَ العملية؛ قامَ "كريبس" بطحنِ عيناتٍ منَ الأنسجةِ الحيوانية، ثمَّ جمعَ السائلَ الناجمَ عنْ طحنِ تلكَ الأنسجةِ وقامَ بعملِ سلسلةٍ منَ التفاعلاتِ الكيميائيةِ عليها. أظهرتْ تلكَ التفاعلاتُ نمطًا واضحًا أدى إلى اكتشافٍ كبير.
منْ قياساتِه؛ توصلَ "كريبس" إلى أنَّ جزيئاتِ السكرِ الناتجةَ عنِ الطعامِ المهضومِ تمرُّ بدورةٍ منَ التفاعلاتِ داخلَ الخليةِ لتنتجَ الجزيءَ الشهيرَ ATP الغنيَّ بالطاقة؛ والذي يوفرُ لنا الطاقةَ التي نحتاجُ إليها للعَيش. عُرفتْ تلكَ الدورةُ بدورةِ "كريبس".
كانَ ذلكَ الاكتشافُ علامةً فارقةً في تاريخِ الكيمياءِ الحيوية؛ إذْ فتحَ البابَ لفهمٍ أعمقَ لكيفيةِ عملِ الخلايا في الجسمِ البشري.
بسببِ ذلكَ الاكتشاف؛ حصلَ "كريبس" على جائزةِ نوبلِ الطبِّ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثلاثةٍ وخمسينَ مناصفةً معَ "فريتس ليبمان" الذي اكتشفَ بدورِه اكتشافًا كبيرًا: مرافقَ الإنزيم A.
فرغمَ أنَّ "كريبس" قدمَ للعالَمِ صورةً كاملةً لجزءٍ مهمٍّ منْ عمليةِ التمثيلِ الغذائيِّ - دورةِ حامضِ الستريك التي يُطلَقُ عليها أيضًا اسمُ دورةِ "كريبس". في هذهِ العملية، التي تتكونُ منْ عدةِ خطوات، يتمُّ تحويلُ العناصرِ الغذائيةِ إلى جزيئاتٍ أخرى بكميةٍ كبيرةٍ منَ الطاقةِ الكيميائية. ظلَّ جزءٌ مهمٌّ منَ العمليةِ مفقودًا - مادةٌ تشكلُ معَ البروتينِ إنزيمًا يسهلُ خطوةً مهمة. في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وستةٍ وأربعينَ تمَّ اكتشافُ المادةِ بواسطةِ "فريتز ليبمان" الذي وصفَ أدوارَها وأعطاها اسمَ إنزيم أ.
وُلدَ فريتز ألبرت ليبمان في الثاني عشرَ منْ يونيو عامَ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وتسعةٍ وتسعينَ في كونيغسبرغ بألمانيا. تلقَّى ليبمان تعليمَهُ خلالَ الأعوامِ من ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعةَ عشَرَ وحتى ألفٍ وتسعِمئةٍ واثنينِ وعشرينَ في جامعاتِ كونيغسبرغ وبرلين وميونيخ، حيثُ درسَ الطب. ثمَّ حصلَ على درجةِ الدكتوراةِ في الطب. في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وأربعةٍ وعشرينَ في برلين. وخلالَ عامِ ما قبلَ الإكلينيكيِّ في الدراسةِ الطبية، كانَ "ليبمان" منبهرًا بشدةٍ بالكيمياءِ الحيوية. فقررَ الحصولَ على زمالةٍ في قسمِ علومِ الأدوية؛ ثمَّ عادَ طالبًا لدراسةِ الكيمياءِ في جامعتِه الأمِّ "كونيغسبرج".
في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثلاثينَ عادَ ليبمان إلى برلين ليعملَ كمساعدِ باحثٍ في مختبرِ ألبرت فيشر، الذي كانَ مهتمًّا بتطبيقِ الأساليبِ البيوكيميائيةِ على زراعةِ الأنسجة. ثمَّ قضى عامَي ألفٍ وتسعِمئةٍ وواحدٍ وثلاثينَ وألفٍ وتسعِمئةٍ واثنينِ وثلاثينَ زميلًا في معهدِ روكفلر في نيويورك؛ وهناكَ حددَ إحدى الموادِ المكونةِ للبروتيناتِ الفوسفورية، والتي تتحكمُ في بعضِ الآلياتِ الخلويةِ المُختصةِ بالتكيفِ معَ الظروفِ البيئية.
ذهبَ إلى كوبنهاغن في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ واثنينِ وثلاثين، بصفتِهِ باحثًا مشاركًا في المعهدِ البيولوجيِّ التابعِ لمؤسسةِ كارلسبرغ. وهناكَ أصبحَ ليبمان مهتمًّا بعمليةِ التمثيلِ الغذائيِّ للخلايا الليفية، مما دفعَهَ إلى التحقيقِ في تأثيرِ باستير (تأثيرِ الأكسجينِ المُثبطِ لعمليةِ التخمر)، وقامَ بنشرِ مجموعةٍ مهمةٍ حولَ آليةِ هذا التفاعُل. كما كشفَ الدورَ الذي يؤديهِ تحلُّلُ السكرِ في عمليةِ التمثيلِ الغذائيِّ لخلايا الأجنَّة.
في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وتسعةٍ وثلاثينَ، أصبحَ ليبمان باحثًا مشاركًا في قسمِ الكيمياءِ الحيوية، بكليةِ كورنيل الطبيةِ بنيويورك، وفي عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وواحدٍ وأربعينَ انضمَّ إلى فريقِ البحثِ في مستشفى ماساتشوستس العامِّ في بوسطن؛ في البدايةِ كباحثٍ مشاركٍ في قسمِ الجراحةِ ثمَّ ترأسَ مجموعتَه الخاصةَ في مختبرِ أبحاثِ الكيمياءِ الحيوية بالمستشفى.
في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وتسعةٍ وأربعينَ أصبحَ أستاذًا للكيمياءِ البيولوجيةِ في كليةِ الطبِّ بجامعةِ هارفارد في بوسطن. في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعةٍ وخمسين، تمَّ تعيينُهُ عضوًا وأستاذًا بمعهدِ روكفلر بنيويورك.
نجحَ "ليبمان" في اكتشافِ "مرافقِ الإنزيم أ" وهوَ أحدُ عناصرِ تحويلِ الطاقةِ في الخلية. يساعدُ ذلكَ الإنزيمُ في استقلابِ الدهونِ والكربوهيدراتِ والبروتيناتِ لإنتاجِ الطاقة. وضعَ اكتشافُ "ليبمان" الحجرَ الأخيرَ في جدارِ فهمِ عمليةِ التنفسِ الخلويِّ أوْ إنتاجِ الطاقة.
أما "هانز أدولف كريبس" -والذي حازَ في وقتٍ لاحقٍ لقبَ سير- فقدْ وُلدَ في هيلدسهايم، ألمانيا في الخامسِ والعشرينَ منْ أغسطس عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ. وهوَ ابنُ جورج كريبس، جراحِ الأذنِ والأنفِ والحنجرةِ في تلكَ المدينة.
درسَ الطبَّ في جامعاتِ جوتنجن وبرلين. وحصلَ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وخمسةٍ وعشرينَ على درجةِ الماجستير في الطب. ثمَّ حصلَ على درجةِ البكالوريوس في جامعةِ هامبورغ ثمَّ قضى سنةً واحدةً في دراسةِ الكيمياءِ في برلين. في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وستةٍ وعشرينَ تمَّ تعيينُهُ مساعدًا في معهدِ القيصرِ فيلهلم للبيولوجيا في برلين، حيثُ ظلَّ حتى عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثلاثين.
في يونيو عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثلاثةٍ وثلاثين، أنهتِ الحكومةُ الاشتراكيةُ الوطنيةُ تعيينَهُ وذهبَ بدعوةٍ منَ السير فريدريك جولاند هوبكنز إلى مدرسةِ الكيمياءِ الحيويةِ بجامعةِ كامبريدج، حيثُ حصلَ على منحةِ روكفلر الدراسيةِ حتى عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وأربعةٍ وثلاثينَ وتمَّ تعيينُه معيدًا للكيمياءِ الحيويةِ في جامعةِ كامبريدج.
في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وخمسةٍ وثلاثين، تمَّ تعيينُه محاضرًا في علمِ الأدويةِ في جامعةِ شيفيلد وفي عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثمانيةٍ وثلاثينَ عُيِّنَ محاضرًا مسؤولًا عنْ قسمِ الكيمياءِ الحيويةِ الذي تمَّ إنشاؤُهُ مؤخرًا هناك.
ركزتْ أبحاثُ البروفيسور كريبس بشكلٍ أساسيٍّ على جوانبَ مختلفةٍ منَ الأيضِ الوسيط. منَ الموضوعاتِ التي درسَها تخليقُ اليوريا في كبدِ الثديياتِ وتخليقُ حمضِ البوليك وقواعدِ البيورين في الطيورِ والمراحلُ الوسيطةُ لأكسدةِ الموادِّ الغذائية، وآليةُ النقلِ النشطِ للكهارلِ والعلاقاتُ بينَ تنفسِ الخليةِ وتوليدِ الأدينوزين متعددِ الفوسفات (المعروفِ باسمِ جزيءِ الطاقة ATP) وهوَ الاكتشافُ الذي حازَ عنهُ جائزةَ نوبل.
نجحَ "كريبس" و"ليبمان" في العثورِ على إجاباتٍ لبعضِ أسرارِ الطبيعة. تمكنَا منْ دفعِ حدودِ فهمِنا قليلًا إلى الأمام. وبفضلِ اكتشافاتِهما؛ نعرفُ الآنَ كيفَ تقومُ خلايانا بالعمليةِ الأهمِّ على الإطلاق.. تحويلِ الغذاءِ إلى طاقةٍ تساعدُنا على الحياة.