
"مونيز وهيس": سياسيٌّ يسجنُ الروحَ بجراحةِ دماغ.. وسويسريٌّ يكتشفُ خلايا تعديلِ السلوك

يُعدُّ المشهدُ الختاميُّ لفيلم "طارَ فوقَ عُشِّ المجانين" أحدَ أبرزِ المشاهدِ السينمائيةِ في التاريخ. في الفيلمِ الحائزِ خَمْسَ جوائزِ أوسكار وستَّ جوائزِ "جولدن جلوب" يصورُ المشهدُ الختاميُّ "جاك نيكلسون" "ماكميرفي" راقدًا على سريرٍ بمستشفى الأمراضِ العقليةِ دونَ حولٍ أو قوة. بجانبِهِ يجلسُ "ويل سمبسون" "الزعيم" محاولًا إيقاظَهُ مما ظنَّهُ سُباتًا. إلا أنَّ "ماكميرفي" -الذي خضعَ للتوِّ لجراحةٍ خطيرةٍ في الدماغِ بهدفِ تعديلِ سلوكِه- لمْ يستجب.
قررَ "الزعيم" تحريرَ روحِ "ماكميرفي" بقتلِه. فهذا الراقدُ في بلادِهِ ليسَ الرجلَ الذي طالَما عرَفَه.
تلكَ الجراحةُ، التي انتشرتْ خلالَ ثلاثينياتِ القرنِ الماضي وأربعينياتِه وخمسينياتِه بهدفِ تعديلِ السلوك. ابتكرَها الطبيبُ الأعصابِ البرتغاليُّ "إيجاس مونيز"، وحصلَ بسببِها على جائزةِ نوبل مناصفةً معَ العالِمِ السويسريِّ "والتر هيس" -الذي اكتشفَ خلايا التحكُّمِ في السلوكيات، وذلكَ قبلَ أنْ تُمنعَ تلكَ العمليةُ نظرًا لخطورتِها على الصحةِ العامة؛ إذْ قالَ عنها الأطباءُ إنها إجراءٌ يجعلُ الرجلَ طفلًا... تمامًا كما حوَّلتْ "ماكميرفي" إلى رجلٍ لا يعرفُهُ الزعيم.
يبدأُ التاريخُ الشائنُ لتلكَ العمليةِ في منتصفِ الثلاثينياتِ حينَ زعمَ "مونيز" أنَّ إحداثَ شقوقٌ في الفصِّ الجبهيِّ أوْ إزالتَهُ جراحيًّا يُمكنُ أنْ تُعالجَ المصابينَ بالأمراضِ النفسية؛ لا سيَّما الوسواسَ القهريَّ والاكتئابَ والفُصام. استقبلتِ المحافلُ العلميةُ ذلكَ الإجراءَ بالاحتفاءِ المُبالَغِ فيه، خاصةً في ظلِّ انتشارِ الأمراضِ النفسيةِ في جميعِ أنحاءِ العالمِ بشكلٍ لمْ يكنْ منَ السهلِ السيطرةُ عليهِ، لدرجةِ أنَّ نصفَ أسرَّةِ المستشفياتِ في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ كانَ يشغلُها مرضى نفسيون.
كانتِ العمليةُ تؤتي ثمارَها؛ فسلوكُ المرضى تحوَّلَ منَ العنفِ إلى الهدوء. ولكنْ؛ على المدى الطويلِ ظهرتِ الآثارُ الكارثيةُ لذلكَ الإجراءِ العنيف. فالمرضى عانَوا منِ اختلالاتٍ وإعاقاتٍ وصرع، بالإضافةِ إلى مشكلاتٍ حادةٍ في حالاتِهم النفسيةِ والعصبية. كما فضَّلَ بعضُهم الانتحارَ هربًا منَ الحياة.
لكنَّ لجنةَ نوبل لمْ تكنْ لتستشرفَ المستقبلَ أوْ تعلَمَ الخطورةَ الداهمةَ لتلكَ العمليةِ على حياةِ المرضى. لذا؛ وجدتْ أنَّ "مونيز" يستحقُّ نصفَ الجائزةِ عنْ جدارةٍ بعدَ أنْ أسهَمَ في تخفيفِ عبءِ الرعايةِ النفسيةِ في جميعِ أنحاءِ العالَمِ، في حينِ استحقَّ "والتر هيس" نصفَها الثانيَ بعدَ اكتشافِهِ احتواءَ الدماغِ البينيِّ على خلايا تتحكمُ في العديدِ منَ السلوكيات.
وعلى عكسِ "مونيز" الذي أجرى تجاربَهُ على البشرِ وشقَّ منتصفَ جبهاتِهم بمَبضعٍ جراحيٍّ لعملِ تعديلٍ في النبضاتِ العصبيةِ للدماغِ عبرَ شَقِّ الفصِّ الجبهي؛ أدخَلَ "هيس" خيطًا معدنيًّا ضيقًا في أجزاءٍ مختلفةٍ منْ تحتِ المهادِ للقططِ المخدَّرة. وأطلقَ نبضاتٍ كهربائيةً في تلكَ المنطقة، ليكتشفَ أنَّ تنشيطَ الجانبِ السفليِّ منَ الدماغِ البينيِّ بنبضاتٍ كهربائيةٍ يُمكنُ أنْ يجعلَ القططَ تُظهرُ سلوكياتٍ دفاعيةً وعدوانيةً أوْ تبدوَ أكثرَ لطفًا وهدوءًا. ليستنتجَ أنَّ تلكَ المنطقةَ فيها خلايا مسؤولةٌ عنِ السلوكيات.
وُلدَ "والتر رودولف هيس" في مقاطعةِ فراونفيلد بشرقِ سويسرا عامَ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وواحدٍ وثمانين. كانَ والدُهُ مدرسًا للفيزياء. سمحَ لهُ، في سنٍّ مبكرةٍ جدًّا، بالتعاملِ معَ الأجهزةِ وعلَّمَهُ الحذرَ في أثناءِ إجراءِ التجارب. وفي بدايةِ مراهقتِه؛ ونتيجةً لتحمُّلِهِ المسؤوليةَ حصلَ على هدية. كانتْ تلكَ الهديةُ هيَ الاعتمادَ على الذاتِ في أثناءِ الرحلاتِ عبرَ الغاباتِ والمروجِ في بيئةِ المدينةِ التي وُلدَ فيها.
في عامِ ألفٍ وتسعِمئة، درسَ الطبَّ في لوزان وبرن وبرلين؛ وعامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ حصلَ على درجةِ الدكتوراةِ منْ جامعةِ زيورخ.
على الرغمِ منْ أنَّ هدفَهُ كانَ دائمًا أنْ يكونَ طبيبًا فيزيولوجيًّا، إلا أنَّ أسبابًا تتعلقُ بالنظامِ الجامعيِّ في سويسرا تطلبتْ أولاً أنْ يعملَ مساعدًا في الجراحة، ثمَّ في طبِّ العيون، وأخيرًا طبيبَ عيونٍ ممارس.
ومعَ ذلك، فإنَّ هذا الانعطافَ لمْ يكنْ بأيِّ حالٍ منَ الأحوالِ عيبًا، فكما تعلَّمَ منْ والدِهِ كانَ كلُّ شيءٍ يحملُ جانبًا مشرقًا، وكلُّ ظرفٍ سلبيٍّ يخبئُ بداخلِهِ شيئًا إيجابيًّا. تعلَّمَ "هيس" تطويعَ الظروفِ والاستفادةَ منَ العراقيلِ وحلَّ المشكلات.
فقدْ أتاحَ لهُ العملُ في طبِّ العيونِ دراسةَ الدماغِ والأعصابِ. وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنَي عشَر؛ اتخذَ القرارَ الأعظمَ في حياتِه.
فرغمَ كونِهِ أبًا لعائلة؛ تركَ ممارسةَ طبِّ العيونِ المزدهرةَ وعادَ إلى منصبِ المساعد. هذهِ المرةَ في علمِ وظائفِ الأعضاء.
وعلى يدِ العديدِ منْ علماءِ وظائفِ الأعضاءِ تتلمذَ. واستمرَّ في الدراسةِ؛ حتى عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وسبعةَ عشَر حينَ تمَّ ترشيحُهُ مديرًا لمعهدِ زيورخ للفسيولوجيا.
كانتْ الِاهتماماتُ العلميةُ للبروفيسور هيس موجَّهةً في المقامِ الأولِ نحوَ ديناميكا الدم، وفيما يتعلقُ بعملياتِ تنظيمِ التنفس. بينما تمَّ توسيعُ العملِ التجريبيِّ حولَ موضوعِ التنسيقِ المركزيِّ للأعضاءِ بشكلٍ عام، أظهرَ "هيس" صورةً شاملةً لتمثيلِ الجهازِ العصبيِّ في الدماغِ البينيِّ، والتي مُنحَ بسببِها جائزةَ نوبل.
ففي أثناءِ التحقيقاتِ التجريبيةِ للدماغِ البينيِّ التي تتحكمُ في نشاطِ الأعضاءِ الداخليةِ بطريقةٍ منسقة، إلا أنَّ "هيس" اكتشفَ أنَّ لتلكَ المنطقةِ وظيفةً أخرى تتعلقُ بالسلوك.
نجحتْ تلكَ المساهمةُ في سدِّ الفجوةِ التي كانتْ حتى ذلكَ الحينِ متأرجحةٍ بينَ علمِ وظائفِ الأعضاءِ والطبِّ النفسي. إذْ أكدَ "هيس" حتميةَ التعامُلِ معَ الأسسِ الفسيولوجيةِ للظواهرِ النفسيةِ الجسدية. ليفتحَ بذلكَ بابًا كبيرًا أمامَ فرعٍ منْ فروعِ علمِ النفسِ الحديثِ... علمِ النفسِ الفسيولوجي.
أمَّا "مونيز" فقدْ وُلدَ في "أفانكا" بالبرتغالِ عامَ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وأربعةٍ وسبعين. تلقَّى تعليمَهُ المبكرَ بصحبةِ عمِّه؛ قبلَ أنْ يلتحقَ بجامعةِ "كويمبرا". وفي عامِ ألفٍ وتِسعمئةٍ واثنينِ أصبحَ أستاذًا في تلكَ الجماعةِ ثمَّ انتقلَ منْها إلى جامعةِ "لشبونة" أستاذًا لطبِّ الأعصابِ وظلَّ هناكَ حتى وفاتِهِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وخمسين.
دخلَ "مونيز" عالَمَ السياسةِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثة. إذْ شغلَ منصبَ نائبٍ في البرلمانِ البرتغاليِّ حتى عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وسبعةَ عَشَر. ثمَّ أصبحَ سفيرًا للبرتغالِ في إسبانيا. فوزيرًا للخارجيةِ ورئيسًا للوفدِ البرتغاليِّ في مؤتمرِ باريس للسلامِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةَ عشَر.
قبلَ فوزِهِ بجائزةِ نوبل عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةٍ وأربعينَ عنْ عمليةِ فصلِ الفصِّ المخيِّ الجبهي. ترشَّحَ مرتينِ للجائزةِ عنْ تطويرِهِ لتقنيةِ تصويرِ الأوعيةِ الدموية. يقولُ بعضُ العلماءِ إنَّ "مونيز" طوَّرَ تلكَ العمليةَ البشعةَ لرغبتِهِ في الفوزِ بنوبل بأيِّ طريقة.
لم يكنْ "مونيز" جراحًا ماهرًا؛ إذْ إنَّ يديهِ كانتْ تُعاني منَ التشوُّهِ منْ جراءِ الإصابةِ بالنقرس. فساعدَهُ طبيبٌ في إجراءِ الجراحةِ الأولى الهادفةِ إلى قطعِ الأليافِ العصبيةِ الموصلةِ بينَ مقدمةِ الجبهةِ ومراكزٍ في الأوعيةِ الدموية. بعدَ انتهاءِ العمليةِ؛ زعمَ "مونيز" أنَّ المريضةَ التي كانتْ تُعاني منَ الاكتئابِ شُفيتْ تمامًا رغمَ أنَّها عاشتْ بقيةَ عمرِها داخلَ جدرانِ المستشفى، وبسببِ مناصبِهِ السياسيةِ؛ طارَ الخبرُ في جميعِ أنحاءِ العالَمِ وبدأتْ سلسلةٌ منْ تلكَ الجراحاتِ البشعةِ والخطيرةِ في الآنِ ذاته.
في خمسينياتِ القرنِ الماضي؛ انخفضَ عددُ الأطباءِ المؤيدينَ لتلكَ العملية، ثمَّ انتهتْ تمامًا منَ العالَمِ منْ جَرَّاءِ الصدمةِ الناجمةِ عنِ المشهدِ الختاميِّ لفيلمِ "طارَ فوقَ عشِّ المجانين".. مشهدِ قتلِ "الزعيم" لماكميرفي.