
تبدأُ قصةُ «نيلس فينسن»، الذي قضَى ثلاثةً وعشرينَ عامًا منْ حياتِهِ القصيرةِ التي امتدَّتْ لأقلَّ منْ خمسةِ عقودٍ مريضًا بداءٍ لا شفاءَ منهُ، يُسبِّبُ لهُ ألمًا مُبرِحًا بينَ حينٍ وآخرَ، غيرَ أنَّهُ تمكَّنَ منَ الفوزِ بثالثِ جائزةِ نوبل تُعطَى في مجالِ الطِّبِّ، ودوّنَ اسمَهُ كأولِ دنماركيٍّ يحصُلُ على الجائزةِ الرفيعةِ في التاريخِ.
وُلِدَ «نيلس» في عامِ ألفٍ وثمانِمِئةٍ وستينَ بمدينةِ ثورزهافن، أكبرِ مُدُنِ جزرِ فارو، التي تقعُ في أقصى الشَّمالِ الأوروبِّي، وتحديدًا في منتصفِ المسافةِ بينَ النرويجِ والسويد، التحقَ بمدرسةٍ دنماركيةٍ تُدعَى «هيرل شولم»، عُرفَ عنهُ طِيبةُ القلبِ وهدوءُ النَّفسِ، غيرَ أنَّ مستواهُ الدِّراسيَّ لمْ يكُنْ في أفضلِ حالٍ، حتى إنَّ مديرَ المدرسةِ بعثَ رسالةً إلى والدِهِ، الذي كانَ يعملُ شُرطيًّا في الجزيرةِ، ليُخبرَهُ أنَّ مهارةَ «نيلسن» محدودةٌ، وطاقتَهُ ضعيفةٌ، مما دعا الأبَ لنقلِ الطفلِ إلى مدرسةٍ أخرى، ليُكملَ دراستَهُ الثانويةَ ويلتحقَ بالجامعة.
في عامِ ألفٍ وثمانِمئَةٍ وثمانينَ، وداخلَ أروِقَةِ كليةِ الطبِّ بالعاصمةِ الدنماركيةِ «كوبنهاجن»، قرَّرَ «نيلس فنسن» دراسةَ علومِ التشريحِ، وبينما كانَ في أَوْجِ الشبابِ، داهمتْهُ أعراضُ مرضِ «نيمان بيك»، وهوَ مرضٌ يُسببُهُ خللٌ جينيٌّ، وينجُمُ عنهُ تراكُمُ الدُّهونِ في خلايا الأجهزةِ الحيويةِ بالجسمِ، كالرئتينِ والطحالِ ونخاعِ العظامِ والكبِدِ، ويتطورُ المرضُ ليصلَ إلى الدماغِ مهاجمًا المخَّ ومُسبِّبًا اضطراباتٍ عصبيةً شديدةً، عَرَفَ «نيلس» أنَّ الموتَ أصبحَ أقربَ إليهِ منَ الحياةِ، إلا أنه قررَ قضاءَ ما بقِيَ منَ الوقتِ في طلبِ العلومِ وتدريسِها، كانَ ذلكَ في عامِ ألفٍ وثمانِمِئَةٍ وثلاثةٍ وثمانين.
رَغمَ مرضِهِ، نجحَ «نيلس» في التخرُّجِ في كليةِ الطبِّ عامَ ألفٍ وثمانِمِئَةٍ وتسعينَ، وبدأَ في تدريسِ علومِ التشريحِ للطلبةِ، ثمَّ قررَ الاستقالةَ منَ الجامعةِ، والتفرُّغَ لأبحاثِهِ العلميةِ، التي أدى فيها مرضُهُ دورًا رئيسيًّا.
يقولُ «نيلس» عنْ نفسِهِ: مرضِي كانَ مصدرَ إلهامِي، فبسبَبِهِ؛ بدأتْ أبحاثِي عنِ الضوءِ، عانيتُ منْ فقرِ الدَّمِ والتعبِ والإرهاقِ، كنتُ أعيشُ في منزلٍ بشمالِ أوروبا، وبدأتُ أعتقدُ أنَّ الشمسَ قدْ تُساعدُني في تخفيفِ ألمي، لذا؛ قضيتُ أكبرَ وقتٍ ممكنٍ مُعرَّضًا لأشعَّتِها، وكرجلِ طبٍّ، كنتُ متحمِّسًا بطبيعةِ الحالِ لمعرفةِ حدودِ الاستفادةِ منْ أشعَّةِ الشمسِ، بدأتْ في جمعِ الملحوظاتِ الممكنةِ، ومعَ الوقتِ، ازدادَتْ قناعَتي بأنَّ للشمسِ تأثيرًا مُفيدًا ومهمًّا على الكائنِ الحيِّ.. ماذا كانَ ذلكَ التأثيرُ على وجهِ الدِّقَّة؟ لمْ أكنْ أعلمُ إجابةً لذلكَ السؤالِ، لذا؛ قررتُ السعيَ وراءَ ذلكَ المجهولِ، والإجابةَ عنْ كلِّ التساؤلاتِ المُمْكنةِ.
في ذلكَ التوقيتِ، لم تُكنْ هناكَ نظريةٌ واحدةٌ ذات موثوقيةٍ علميةٍ يُمكنُها تقديمُ حقائقَ دامغةٍ حولَ فائدةِ أشعةِ الشمسِ للكائناتِ الحيةِ، فقطْ؛ كانَ هناكَ التاريخُ الطويلُ الذي ينطوي على عدةِ مُمارساتٍ طبيةٍ قديمةٍ موروثةٍ من الصينيينَ وقدماءِ المصريينَ، الذينَ كانوا يستخدمونَ مزيجًا منَ الدهاناتِ المكوَّنةِ منَ النباتاتِ لعلاجِ بعضِ الأمراضِ، معَ تعريضِ المريضِ لضوءِ الشمسِ، لمْ تُدوَّنْ نتائجُ واضحةٌ لتلكَ التجاربِ؛ وبالتالي؛ لم يُعوَّلْ على استخدامِ تلكَ الوسيلةِ بوصفِها طريقةَ علاجٍ فعالةً في ذلكَ الزَّمانِ.
كانتِ المُهِمَّةُ التي ألقاها القَدَرُ على عاتِقِ «نيلس» هيَ وضعَ أساسٍ لتلكَ العمليةِ، وبناءَ نظريةٍ مُحكَمَةٍ، دامغةٍ، لاستخدامِ الشمسِ، أوِ الضوءِ عمومًا، كوسيلةٍ مُعتمدةٍ لعلاجِ بعضِ الأمراضِ، وهوَ الأمرُ الذي نجحَ فيهِ الطبيبُ الدنماركيُّ ليُصبحَ أبًا شرعيًّا للطريقةِ التي تُسمَّى حاليًّا بالعلاجِ بالضوءِ.
باستخدامِ تجارِبَ بسيطةٍ، أثبتَ «فينسن» أنَّ انكسارَ أشعَّةِ الشمسِ على الجلدِ لهُ تأثيرٌ قويٌّ على تحفيزِ الأنسجةِ، ذلكَ التأثيرُ يتدرَّجُ منَ التحفيزِ إلى القُدرةِ على تدميرِ الخَلايا، بدأَ العَالِمُ المريضُ بدراسةِ تأثيرِ تركيزِ الأشعَّةِ الشمسيةِ على مناطقَ معيَّنةٍ منْ جلدِ المرضى، لينجحَ في علاجِ بعضِ الأمراضِ الجلديةِ التي استعصتْ على طُرُقِ العلاجِ التقليديةِ، مثلَ مرضِ الذئبةِ الشائعةِ، وهوَ مرضٌ جلديٌّ ينجُمُ عنْ مُهاجمةِ جهازِ المناعةِ للجسمِ، ويتسبَّبُ في حُدوثِ التهاباتٍ وتقرُّحاتٍ في جلدِ الإنسانِ.
يتكوَّنُ ضوءُ الشمسِ منْ أشعةٍ تحتَ الحمراءِ ذاتِ طولٍ موجيٍّ طويلٍ، وأخرى تحتَ الحمراءِ قصيرةَ الطولِ الموجيِّ، علاوةً على أشعةٍ فوقَ البنفسجيةِ وأشعةِ الضوءِ المرئيِّ، وحينَ يمتصُّ الجلدُ الأطوالَ الموجيةَ للضوءِ، تتولَّدُ طاقةٌ تُساعدُ على الشفاءِ منَ الأمراضِ، عبرَ إحداثِ مجموعةٍ منَ التفاعلاتِ الكيميائيةِ معَ الخلايا البشرية، بتلكَ المعلوماتِ؛ لفتَ «نيلس فينسن» أنظارَ المانحِينَ والمموِّلينَ بعدَ أنْ تمكَّنَ منْ علاجِ ذلكَ المرضِ، وهوَ ما مكَّنَهُ منْ تشييدِ معهدٍ باسمِهِ، في العاصمةِ الدنماركيةِ، ليُطوِّرَ أبحاثَهُ وتقنياتِهِ العلميةِ، التي يُستخدمُ فيها الضوءُ الكيميائيُّ كوسيلةٍ لعلاجِ الأمراضِ الشائعة.
الاكتشافُ الكبيرُ لأسلوبِ العلاجِ بالضوءِ مهَّدَ الطريقَ أمامَ «نيلس فيسن» للحصولِ على أكبرِ تكريمٍ علميٍّ، ففي عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثلاثةٍ؛ وبينما كانَ الطبيبُ الدنماركيُّ جالسًا على كرسيٍّ مُتحركٍ في شرفةِ منزلِهِ مستمتعًا بشمسِ الصباحِ، بعدَ أنْ قامَ بإجراءِ جراحةٍ –للمرةِ الثامنةَ عَشْرَةَ- لشفطِ المياهِ الموجودةِ في جسدِهِ بسببِ الاستسقاءِ، تلقَّى تهنئةً بحصولِهِ على جائزةِ نوبل في الطبِّ، وكانتْ أُولَى كلماتِهِ «حسنًا.. يبدو أنَّ ذلكَ إثباتٌ أنَّ لجائزةِ نوبل أصولاً دنماركية».. قررَ «نيلس» أنْ يتبرعَ بجزءٍ منَ الجائزةِ لمعهدِ القلبِ والكبدِ، وتبرَّعَ بجُزءٍ آخرَ لمعهدِ «فينسن» الدنماركي، بعدَ نحوِ عامٍ منْ فوزِهِ بالجائزةِ، وتحديدًا في سبتمبر عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وأربعة، رحلَ الطبيبُ الدنماركيُّ عنْ عالمِنا، تاركًا إرثًا منَ النظرياتِ، وبِضعَ ورقاتٍ بحثيةٍ؛ كتبَ معظمَها حينَ كانَ ينظرُ إلى الشمسِ منْ على كُرسيٍّ متحرِّكٍ بشُرفةِ منزلٍ يُطلُّ على بحرِ الشَّمال.
والآنَ؛ وبفضلِ أبحاثِ «نيسن» الرائدةِ المُؤسِّسةِ لعلمِ العلاجِ بالضوءِLight therapy ، يَعرِفُ العلماءُ أنَّ للضوءِ طاقةً قادرةً على الشفاءِ منْ بضعةِ أمراضٍ منْ ضمنِها اضطراباتُ النومِ، وبعضُ أمراضِ الجلدِ، والتئامُ الجروحِ، وتحسينُ الدورةِ الدموية.