
في تلكَ المدينةِ النائيةِ الواقعةِ جنوبَ شرقيِّ الإمبراطوريةِ الروسيةِ، كانَ "إيفان" –ذو السبعةِ أعوامٍ- يتسلقُ سورًا حجريًّا بداعي الفضولِ. كانَ الصقيعُ يُخيِّمُ على الأجواءِ، فشأنُها شأنُ مُعظمِ مُدنِ الإمبراطوريةِ؛ تساقطتِ الثلوجُ في "ريازان" بكثافةٍ هائلة. سَقَطَ الطفلُ على ظهرهِ بقوةٍ حينَ فشِلَ في التَّمسُّكِ بالسورِ. فَقَدَ وعيَهُ ونُقِلَ في التوِّ إلى منزلِهِ. وحينَ شاهدَهُ الطبيبُ أخبرَ والدَهُ بأنَّ احتماليةَ نجاتِهِ ضعيفة.
دعا والدُهُ اللهَ، ونذرَ نذرًا؛ فإذا ما تعافى الصغيرُ، سيَهَبُهُ لخدمةِ الكنيسةِ. بعدَ أربَعِ سنواتٍ كاملةٍ، عادَ الطِّفلُ إلى سابقِ نشاطِهِ، وقررَ الوالدُ إلحاقَهُ بالتعليمِ الدِّيني.
غيرَ أنَّ "إيفان بتروفيتش بافلوف" كانَ لهُ رأيٌ آخَرُ. فدراسةُ اللاهوتِ لمْ تستهوِهِ، والتبحُّرُ في مساقاتِ الدِّينِ لم يَكُنْ ليُغْوِيَه.
فـ"إيفان بتروفيتش بافلوف" كان مفتونًا بحُبِّ العلومِ. وصارَ قلبُهُ مُتعلقًا بكشفِ أسرارِها الدَّفينة.
وُلِدَ "بافلوف" في الرابعَ عشرَ منْ سبتمبر عامَ ألفٍ وثَمانِمِئَةٍ وتسعةٍ وأربعين، حيث كانَ والدُهُ كاهنًا للقرية. ركزتْ دراساتُهُ المبكرةُ –التي بدأَها في سِنِّ الحاديةَ عَشْرَة- على اللاهوت. وحينَ أتمَّ العشرينَ، صادفَهُ الكتابُ الذي غيَّرَ حياتَه.
فعلى بُعدِ آلافِ الكيلومتراتِ منْ قريتِهِ القَصِيَّةِ، كانَ الجدلُ يشتعلُ حولَ "داروين". ذلكَ العالِمُ الذي وضعَ أساسًا للنظريةِ المعروفةِ حاليًّا بِاسمِ التطوُّر. حينَ كانَ "بافلوف" في العاشرةِ منْ عُمرِهِ، وبينما كانَ لا يزالُ يُعاني منْ ويلاتِ السُّقوطِ، نَشَرَ "داروين" كتابَهُ المشهورَ "أصلُ الأنواع" عامَ ألفٍ وثَمانِمِئَةٍ وتسعةٍ وخمسين. استغرقَ وصولُ الكتابِ إلى روسيا نحوَ عَشْرِ سنواتٍ أخرى. ووقعَ في يدِ "بافلوف" بالصُّدفةِ البحتةِ. ليقرأَهُ بشغفٍ، ليقرِّرَ بعدَها هَجْرَ اللاهوت، ودراسةَ العلومِ الطبيعيةِ في جامعةِ "سان بطرسبرج".
كانتِ اهتماماتُ بافلوف الأساسيةُ هيَ دراسةَ علومِ وظائفِ الأعضاءِ، والعلومِ الطبيعيةِ. وفي أثناءِ وجودِهِ في الجامعةِ، ساعدَ في تأسيسِ قسمِ علمِ وظائفِ الأعضاءِ، واستمرَّ في الإشرافِ عليهِ مُدَّةِ خمسةٍ وأربعينَ عامًا كاملة.
يرتبطُ اسمُ "بافلوف" بنظريةٍ شهيرةٍ تحملُهُ، وهيَ نظريةُ "الارتباطِ الشَّرطيِّ"، التي غيرَتْ منْ وجهِ علمِ النَّفسِ للأبد.
تقولُ تلكَ النظريةُ إنَّ كلَّ سلوكٍ نتعلَّمُهُ مكوَّنٌ منَ ارتباطِ مُثيرٍ شَرطيٍّ واستجابةٍ طبيعيةٍ. بمعنى أنَّنا حينَ نفتحُ صُنبورَ المياهِ -على سبيلِ المثالِ- طلبًا للماءِ، فلا يُمكنُ أنْ نقومَ بذلكَ الفعلِ إلا لأنَّ هناكَ ارتباطًا بينَ فتحِ الصُّنبورِ والحصولِ على الماء.
لكنْ، ماذا يعني اكتشافُ أمرٍ كهذا لعِلمِ النَّفس؟
يعني الأمرُ أنَّ كلَّ نشاطاتِنا النَّفسيةِ هيَ مجرَّدُ ردودِ الأفعالِ المُنعكسةِ الشَّرطيةِ. فاستجابتُنا لكلِّ ما حولَنا منْ مثيراتٍ –مثلًا الشعورُ بالانزعاجِ نتيجةَ سماعِ الأصواتِ العاليةِ- ما هُوَ إلا ردُّ فعلٍ مُنعَكِسٍ شَرطيٍّ يُجسِّدُ استجابتَنا منَ الناحيةِ العُضويةِ للبيئةِ الخارجية.
حاوَلَ "بافلوف" الوصولَ إلى الأساسِ البيولوجيِّ لتلكَ النَّظريةِ، والوصولَ إلى طبيعةِ العلاقةِ بينَ الدِّماغِ والحالةِ النَّفسيةِ للشَّخصِ. ومنْ هنا، وضعَ الرجلُ أساسًا لعلمِ طبِّ النفسِ الفسيولوجيِّ، الذي يُحيلُ الأمراضَ النفسيةَ إلى مجموعةٍ منَ التغييراتِ في تركيزاتِ كيمياءِ المُخِّ، والتي تبدأُ داخِلَ أدمِغَتِنا.
بدأتْ قصةُ اكتشافِ تلكَ النَّظريةِ حولَ رُدودِ الأفعالِ المنعكسةِ الشَّرطيَّةِ حينَ كانَ بافلوف يُجري أبحاثًا على لُعابِ الكلابِ. لاحَظَ العالِمُ أنَّ لُعابَ الكلبِ يبدأُ بالسَّيلانِ قبلَ وصولِ الطَّعامِ إلى فمِهِ. إذْ يسيلُ بمجرَّدِ رؤيةِ ما يقدَّمُ لهُ منْ طعامٍ، أوْ حتى سماعِ خطواتِ صاحبِهِ في أثناءِ الجُوع.
تلكَ مَلحُوظةٌ بسيطةٌ، إلا أنَّها قادَتْ بافلوف إلى نظريَّتِهِ الكُبرى.
وعلى نَقيضِ العلماءِ الآخرينَ، لم يلجأْ بافلوف إلى استخراجِ أمخاخِ الكلابِ منْ أدمغتِها أوْ بترِ أجزاءٍ منَ المُخِّ لمُلاحظةِ تأثُّرِ الوظائفِ بالأجزاءِ المبتورةِ للكشفِ عنِ السَّببِ وراءَ سَيَلانِ اللُّعابِ. وقرَّرَ تصميمَ مجموعةٍ منَ التجاربِ يفحصُ من خلالِها تأثيرَ المُثيراتِ الطبيعيةِ –كأصواتِ خُطواتِ صاحبِ الكلبِ- على توليدِ استجابةٍ منْ رُدودِ الأفعالِ عندَ الكلاب.
وبعدَ إجراءِ مئاتِ التَّجاربِ، صكَّ "بافلوف" مُصطلَحَهُ الشَّهيرَ: اللُّعابُ النَّفسِي.
قبلَ بافلوف، كانَ العلماءُ يعتقدونَ أنَّ إفرازَ اللُّعابِ ظاهرةٌ فسيولوجيةٌ ناجمةٌ عنِ احتكاكِ الطعامِ بحُلَيماتِ اللُّعابِ في الفمِ. فلِلُّعابِ وظيفةٌ أساسيةٌ تتمثلُ في المساعدةِ على الهضمِ. إلا أنَّ بافلوف وجدَ أنَّ لُعابَ الكِلابِ يسيلُ قبلَ احتكاكِ الطعامِ باللسانِ، وبالتالي؛ فإنَّ سَيَلانَ اللُّعابَ في تلكَ الحالةِ مجرَّدُ سُلوكٍ نفسيٍّ؛ ناجمٍ عنْ علاقةٍ جوهريةٍ بينَ مُثيرٍ هوَ "خطواتُ صاحبِ الكلبِ الذي يحملُ الطَّعام"، ووظائفِ الدماغِ العُليا للكلب.
بعدَ إثباتِ تلكَ الملحوظةِ، وضَعَ "بافلوف" سلسلةً منَ القوانينِ العلميةِ، التي تشرحُ باستضافةٍ علاقةَ المُثيرِ الخارجيِّ بكيمياءِ الدِّماغِ، والكيفيةَ التي نُولِّدُ بها ردودَ أفعالِنا منْ جَرَّاءِ ما يحدُثُ في البيئةِ المحيطة.
وفي عام ألفٍ وتِسعِمِئَةٍ وأربعة؛ حصلَ "بافلوف" على جائزةِ نوبل في علومِ الفسيولوجيا. إلا أنَّ سببَ الحصولِ على تلكَ الجائزةِ لم يكنِ الوصولَ إلى تلكَ النظريةِ الشهيرةِ على الإطلاق!
فخلالَ عملِهِ على نظريةِ "الاستجابةِ الشَّرطيَّةِ". دَرَسَ "بافلوف" عمليةَ الهضمِ. تلكَ العمليةُ التي يَستخرِجُ الجسمُ من خلالِها الطاقةَ منَ الطَّعامِ. وفي أثناءِ دراستِهِ المُستفيضةِ للهضمِ؛ حدَّدَ هذا الرجلُ الطُّرقَ التي يؤثِّرُ بها الجهازُ العصبيُّ على حركاتِ القناةِ المِعويةِ وكذلكَ على إفرازِ عُصارةِ المَعِدةِ والإفرازاتِ الأخرى. كما أشارَ إلى أهميةِ العواملِ النَّفسيةِ -مثلَ الجوعِ- في تنشيطِ تلكَ الإفرازاتِ. وأظهرَ حساسيَّةَ الغشاءِ المُخاطيِّ في المَعدةِ للموادِّ الكيميائيةِ المختلفة.
منْ خلالِ عمليةِ الهضمِ، يستخرجُ الجسمُ التغذيةَ والطاقةَ منَ الطَّعامِ. درسَ إيفان بافلوف عملياتِ الهضمِ المختلفةِ، جزئيًّا عنْ طريقِ الكشفِ عنْ أقسامٍ منَ القناةِ المِعويةِ للكلبِ منْ خلالِ الجراحةِ. خلالَ تسعينياتِ القرنِ التاسعَ عشَرَ، حددَ الطرقَ التي تؤثرُ بها أجزاءٌ مختلفةٌ منَ الجسمِ، منْ خلالِ الجهازِ العصبيِّ، على حركاتِ القناةِ المِعويةِ، وكذلكَ على إفرازِ عصيرِ المَعِدةِ والإفرازاتِ الأخرى. كما أشارَ إلى أهميةِ العواملِ النفسيةِ، مثلَ قدرةِ الجُوعِ على تنشيطِ إفرازِ عصيرِ المعدةِ. علاوةً على ذلِكَ، أظهرَ حساسيَّةَ الغشاءِ المُخاطيِّ في المعدةِ للموادِّ الكيميائيةِ المختلفة.
قبلَ أنْ يصِلَ "بافلوف" إلى استنتاجاتِهِ، كانتِ الآراءُ حولَ عمليةِ الهضمِ عبارةً عنْ تكهُّناتٍ حولَ ما كانَ يُطلَقُ عليهِ "الطحنُ داخلَ المعدة". فلأنَّ عملياتِ الهضمِ -في ذلكَ التوقيتِ- لا يُمكنُ ملاحظتُها أوِ التَّحقُّقُ منها مباشرةً في المعدةِ، لا يستطيعُ العلماءُ بالتالي معرفةَ حقيقةِ ما يحدُثُ داخلَها. وعلى الرَّغمِ منْ أنَّ الطبيبَ الأمريكيَّ "دبليو بومونت" بدأَ بَحْثَ الأمرِ حينَ وصلَ إليهِ شابٌّ مُصابًا بطلقٍ ناريٍّ في المعدةِ أحدثَ ثُقبًا يُمكِنُ من خلالِهِ الوصولُ إلى بعضِ الحقائقِ حولَ عمليةِ الهضمِ، إلا أنَّ "بافلوف" أجرى مجموعةً منَ التجاربِ الرائعةِ على حيواناتٍ ظلَّتْ في حالةٍ صحيةٍ جيدةٍ بعدَ الانتهاءِ منَ التَّجاربِ، ودونَ أن يُحدثَ بها أيَّ إصاباتٍ تؤدي إلى خللٍ في جهازِها الهضمي.
استنتجَ "بافلوف" أنَّ القناةَ الهضميةَ يُمكنُ أنْ تتأثرَ بطرقٍ مختلفةٍ بالجهازِ العصبيِّ. الذي لا يستطيعُ فقط تحفيزَ العملياتِ الإفرازيةِ، بلْ يُحدِثُ أيضًا تأثيرًا في حركاتِ أجزاءٍ مختلفةٍ في جهازِنا الهضمي.
كانَ العلماءُ في ذلكَ التوقيتِ يعتقدونَ أنَّ إفرازَ المعدةِ لا يُمكنُ أنْ يتأثرَ بالأعصابِ التي تربِطُ المعدةَ والجهازَ العصبيَّ المركزيَّ. ومعَ ذلكَ، فقدْ ثَبَتَ أنَّ هذا المفهومَ غيرُ صحيح. أثبتَ بافلوف أنَّ "العصبَ المُبهَمَ" الذي يربِطُ الدماغَ بالعديدِ منَ الأعضاءِ في الصدرِ والبطنِ يحتوي على أليافٍ تُحفِّزُ إفرازَ المَعدةِ، كما أثبتَ أيضًا أنَّ لهُ تأثيرًا معاكسًا في أثناءِ نشاطِها. ونجحَ في الكشفِ عنِ الطريقةِ التي يتمُّ التحكُّمُ من خلالِها في إفرازاتِ عصيرِ المعدةِ عنْ طريقِ الجهازِ العصبيِّ المركزيِّ، والتي يمكنُ أنْ تؤثرَ أيضًا على أجزاءٍ مختلفةٍ منَ الجِسمِ. ووجدَ أنَّ إفرازَاتِ المَعِدةِ يُمكنُ أنْ تتأثرَ بالانطباعاتِ والحالةِ النفسية.
توصَّلَ هذا العالِمُ الفَذُّ إلى أنَّ الجهازَ العصبيَّ يتحكَّمُ في إمداداتِ الدَّمِ للأجزاءِ المُختلفةِ منَ الجهازِ الهضميِّ، وأنَّ هناكَ علاقةً حِسِّيَّةً عصبيةً بينهما.
قبلَ بافلوف، كانتِ المعرفةُ غيرَ مكتملةٍ، قامَ الروسيُّ بتصحيحِ الكثيرِ والكثيرِ منَ الآراءِ الخطأِ السابقةِ، وكشفَ عنْ وِجهةِ نظرٍ جديدةٍ منْ خلالِ أساليبَ عبقريةٍ أتاحتِ الوصولَ إلى تحليلٍ قاطعٍ لفسيولوجيا الجهازِ الهضمي.
في العاشرِ منْ ديسمبر عامَ ألفٍ وتِسعِمِئَةٍ وأربعة، وقفَ رئيسُ معهدِ "رويال كارولين" الكونت "كارل مورنر" على خشبةِ المسرحِ المخصَّصِ لتكريمِ الفائزينَ بنوبل. وقالَ إنَّ العلومَ الطبيةَ تترابَطُ فيما بينَها، وإنَّ التقدُّمَ في مجالٍ واحدٍ يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بالتطورِ في المجالات الأخرى. وإنَّ ما يبدو ثانويًّا له قيمةٌ جوهريةٌ في الاكتشافِ.
تلكَ الكلمةُ هيَ بالضبطِ ما يُمكنُ أنْ يصِفَ حصولَ "بافلوف" على الجائزةِ. فالرَّجلُ حَصَلَ على نوبل في الطبِّ بسببِ اكتشافِهِ الثانويِّ. وليسَ نظريَّتِهِ الشَّهيرة.
في سنِّ السادسةِ والثمانينَ، أُصيبَ "بافلوف" بالتهابٍ رئويٍّ حادٍّ. وحينَ أحسَّ بالموتِ يقتربُ، أمرَ أحدَ طلابِهِ بالجلوسِ بجانبِهِ على السريرِ، لتسجيلِ كافةِ تفاصيلِ موتِهِ ونشرِها للفائدةِ العلميةِ. وكما وهبَ "بافلوف" حياتَهُ للعلمِ، تبرَّعَ بلحظاتِهِ الأخيرةِ منْ أجلِ المعرفة.