
كلنا بالتأكيد سمعنا كلمة "فيروس" أكثر من مرة ، وبعضنا يعرف إنها كائنات صغيرة تُسبب عدوى مرضية، تختلف شدتها حسب نوع الفيروس، وقدرة الجهاز المناعي على اكتشافه وتدميره.
وعلى الرغم من إن هذه الكلمة معروفة من عام 1898، إلا أن مسؤوليتها عن التسبب في الأمراض عرفت فقط في ثلاثينيات القرن الماضي، حين أثبت عالم أمريكي العلاقة بين الإصابة بالفيروسات وحدوث الأمراض.
هذا العالم أسمه "ريتشارد إيدوين شوب".. ولد يوم 25 ديسمبر عام 1901 في مدينة دي موان بولاية أيوا الأمريكية، ووالده كان طبيبا. حصل ريتشارد على شهادة الطب في عام 1924 وأصبح مدرسًا في علم الصيدلة في جامعة أيوا، وبحلول عام 1928، التحق بمعهد روكفلر الشهير كأستاذ لعلوم الفيروسات والمناعة.
حين كان في عمر 17 عام، حدث وباء الإنفلونزا الإسبانية الشهير، والذي انتشر في أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأصاب حوالي 500 مليون شخص توفي منهم أكثر من 20 مليون.
هذا الوباء كان له آثار بالغة على مسار العلم.
العلماء حاولوا معرفة أسباب الوباء لكنهم لم يصلوا لنتيجة موثقة، في هذا الوقت كان ريتشارد شوب بدء يدرس علوم المناعة، وحاول فهم أسباب انتشار الإنفلونزا الإسبانية على هذا النطاق الواسع، وبعد أكثر من 13 عام من الدراسة، حدثت صدفة غيرت مسار حياته.
وباء جديد اجتاح الغرب الأمريكي عام 1931، لحسن الحظ، أن هذا الوباء لم يصب البشر، أصاب الخنازير. اعتقد المربين إن البكتيريا هي سبب الوباء، وبعتوا عينات من الخنازير النافقة لعلماء في طول أمريكا وعرضها لتحديد السبب على وجه الدقة.
واحدة من هذه العينات وصلت ل ريتشارد، وبفحصها؛ وجد أن هناك جرثومة تسبب مرض يشبه الأنفلونزا، إلا أن هذه الجرثومة لم يكن لديها القدرة على الانتقال من خنزير لأخر، وبعد دراسة استمرت عامين توصل ريتشارد للسبب الحقيقي.
فيروس في دم الخنازير، لديه قدرة عالية على التكاثر والأنتقال من خنزير لأخر. نجح "ريتشارد" في عزل الفيروس وحقن به مجموعة من الخنازير السليمة، والتي بدأت بالفعل تظهر عليها نفس أعراض المرض الذى اجتاح خنازير الغرب الأمريكي. وكان هذا أول دليل على وجود فيروس قادر على إصابة الخنازير بمرض الإنفلونزا.
في تلك اللحظة، بدأ "ريتشارد" يفكر، إذا كان هناك فيروس قادر على إصابة الخنازير بالإنفلونزا، لماذا لا يكون هناك فيروس قادر على إصابة البشر بنفس المرض؟
بدأ هذا التساؤل يسيطر عليه، وعاد للسجلات الطبية لفترة اجتياح الإنفلونزا الإسبانية للعالم، ونجح في العثور على أشخاص نجوا من الوباء، وبدأ يدرس خصائصهم المناعية، وقارنها بالخصائص المناعية لبعض الأشخاص الذين ولدوا بعد عام 1920، العام الذي انتهى فيه تماما وباء الإنفلونزا الاسبانية.
وبفحص الأجسام المناعية للأشخاص الناجين من الوباء، وجد لديهم أجسام مضادة تحميهم ليس فقط من فيروس الأنفلونزا الإسبانية، لكنها أيضا قادرة على تدمير فيروس إنفلونزا الخنازير، وهنا كان الاستنتاج الأهم في مسيرة "ريتشارد شوب" العلمية.. وهو وجود رابط ما بين الإنفلونزا البشرية والإنفلونزا الحيوانية.
استمر عمل "ريتشارد على الفيروسات" ليجد –ولأول مرة- أن تلك الكائنات لها دور في تطوير السرطانات، بعد أن لاحظ وجود أورام في مخالب الأرانب تطورت بعد إصابة الأرنب بنوع من أنواع الفيروسات يسمى فيروس الورم الحليمي، واستنتج أن هذا الفيروس قد يُسبب سرطانات عنق الرحم.
وفي عام 1942، قاد "ريتشارد" فريق لتطوير لقاح ناجح ضد الطاعون البقري لا يزال يستخدم حتى الآن، واكتشف أيضا مجموعة من المواد القادرة على مقاومة بعض أنواع الفيروسات.
جهود "ريتشارد" ساهمت في فهم أفضل للكيفية التي تنتقل بها الفيروسات من شخص لآخر، ومن حيوان لآخر، وبالتالي، مهدت الطريق لصناعة تحصينات ولقاحات خاصة، أنقذت حياة الملايين حول العالم و وساهمت في الحد من سطوة الكائنات الصغيرة الشريرة المسماة بـ"الفيروسات".